فيلم "أسماك حمراء"... حياة تبدأ عند بوابة السجن

قرر المخرج المغربي عبد السلام الكلاعي، أن يبدأ حكاية فيلمه من لحظة إطلاق حياة (جليلة التلمسي) عند بوابة السجن إلى الشارع، بعد قضائها 17 عاماً، وخروجها بعفو لحسن السيرة والسلوك قبل ثلاث سنوات من حكم سجن عشرين عاماً.
بل إنّ الكلاعي قرر أن يكون اسم الفيلم "أسماك حمراء"؛ لأنّ عماد الفيلم هو حياة إنسانة في وضعية هشة خارج السجن القانوني، تجرّ ماضيها وهي تقطع مئات الكيلومترات ذليلة مهانة ومستغلة، ومقاومة بشراسة. وستصادف امرأة أخرى (أمل: فريدة بوعزاوي) سجينة فقرها، تحاول بكل السبل أن تغادر البلاد تهريباً، وهدى (نسرين الراضي) شقيقة أمل، وهي سجينة جسد يحلم بالطيران، لكنها عاجزة لإصابتها بشلل دماغي.
هذه الوضعية الهشة ذاتها التي لسمكة حمراء من أسماك الزينة، حيث حوض الماء الذي جلبت منه، مجالُ تأمل في أشكال السجن، فلا نعرف لغة الأسماك، بيد أن لدينا لغتنا التي تعبر عن قيودنا، مثلما لدينا الصمت الأعمق تعبيراً.

وصمة العار
كتب الكلاعي السيناريو مع مواطنه السيناريست محمد المويسي، ودارت الحكاية في مدينة العرائش شمالي المغرب، المحاطة بقرى، وفيها أيضاً صناعة زراعية نشطة، إذ تتعرف حياة وأمل إلى بعضهما بعضاً في مصنع تعليب التوت الأزرق، وستطردان لتعملا في مزرعة بين عشرات النساء، وتواجهان معاً لعبة الحاجة والاستغلال، ووصمة العار المزمنة في منظومة قيم أنتجها ذكور المجتمع الذين يطحنهم أيضاً واقع سوسيواقتصادي، لكنه يطحن النساء بشكل مضاعف. نتذكر هنا دور زكرياء عاطفي، القيّم على المزرعة والمتحرش (وهو أيضاً مساعد المخرج). كان دوره القصير علامة فارقة لشريحة من الذكور الذين يجمعون السلطة واللعاب السائل من العيون.
التقينا عبد السلام الكلاعي قبل يوم من فوزه بجائزة "أنهار" لأفضل عمل سينمائي يعالج قضايا حقوقية في العالم العربي، في مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان في عمّان. وهذه المشاركة الرابعة لـ"أسماك حمراء" الصادر هذا العام 2022، بعد مهرجان مراكش الدولي للفيلم، والمهرجان الوطني للفيلم في طنجة، وحاز فيه على جائزة السيناريو وجائزة أحسن ممثلة لجليلة التلمسي، والمهرجان الدولي للفيلم في بروكسل حيث فاز بالجائزة الكبرى وجائزة أحسن ممثلة مناصفة بين جليلة التلمسي ونسرين الراضي.

خارج السجن القانوني
لم يشأ المخرج إدخالنا إلى السجن القانوني، مع أنه حصل على تسهيلات أمنية ليصور "حياة" داخله. ما وقع من تحوّلات استبعدت ما أنتجته الكاميرا داخل السجن أمر مفهوم ويدل على حساسية متنبهة. دخلت الكاميرا حيث ستمثل جليلة التلمسي دور "حياة" السجينة التي قتلت زوجها بمبرد أظافر. وبالفعل صوّره وفي المونتاج حذفه كله، وابتدأ من لحظة خروجها.
نتلمس عبر هذا المحذوف عالماً يحتاج إلى كاميرا في حيز ضيق، وهذا وحده رواية قاسية ذات مواصفات مختلفة عن سياق الفيلم. كما أن المخرج مغرم بالبعد الوثائقي داخل الفيلم الروائي. وهذا ما جعله يستخدم كاميرا محمولة لتكون في خدمة الممثلين، بما يضفي مسحة وثائقية في سياق تمثيلي، فيكون التفاعل مع الواقع بشكل لحظي.
وجد في خيار السجون المتحركة في فضاء سوسيواقتصادي يمكنه أن يدير فيه كاميرته بهذه الواقعية التي يبتغيها، بدل دخول السجن الذي يحتاج إلى "أكثر من فيلم وبحث ميداني"، كما يقول، وفي "وضع كارثي" حيث يوجد في سجون المغرب مئة ألف سجين بحسب بعض الأرقام، ويعيش عشرون واحداً منهم في غرفة مقاسها خمسة في ثلاثة أمتار، والكلام ما زال له.

كبح المبالغة
لدى انفتاح البوابة على جليلة التلمسي وحتى النهاية، كنا أمام ممثلة قادرة على حمل صورة امرأة مسحوقة، من دون أي صخب في التعبير. في هذا السياق، نسأل عبد السلام الكلاعي عن اختياره الشخصية الرئيسية. يقول: "في أثناء كتابة السيناريو، بدأ وجه جليلة التلمسي يلوح أمامي. هي فنانة ذات عمق كبير في الإحساس وقدرة على التعبير غير المبالغ فيه. لديها ملكة الممثلين والممثلات الكبار الذيت يبدون كأنهم لا يمثلون. أحد الأشياء التي لا تعجبني في سينما جنوب المتوسط وخصوصاً في منطقتنا المبالغة في إبراز الأحاسيس. دوري كان كبح جماح الممثلين، كي لا تدفعهم تلك الوضعيات الصعبة إلى تشخيص فيه نوع من الميلودراما. حين تكبح جماح الممثلين تصبح أقرب إلى الواقع، وتجعلهم في نقطة محددة من التعبير. أنا مخرج يعمل بالفرامل".
بدت الممثلة نسرين الراضي كأنها امرأة مصابة فعلاً بالشلل الدماغي. يحدثنا المخرج عن دورها: "هي خدعت بعض النقاد والمخرجين المغاربة الذين يعرفونها شخصياً، وظنوا أنها شخص آخر ومعاقة فعلاً. لقد أرسلت لها فيديو لفتاة فرنسية مصابة بالشلل الدماغي، وطلبتُ منها أن تؤدي هذا الدور، فوصفتني مباشرة بالمجنون، إلا أنني أقنعتها بأنها ستكون على قدر الدور. تطلب ذلك مجهوداً كبيراً منها، وكانت بعد كل تصوير تصاب بإعياء جسدي ونفسي، وهي الوحيدة بين الممثلين والممثلات رفضت مشاهدة أي لقطة لها أثناء المونتاج".
يُشار إلى أن "أسماك حمراء" هو الفيلم السينمائي الطويل الثاني للكلاعي بعد عشرة أفلام تلفزيونية. يحدثنا عن هذه المغامرة: "في "أسماك حمراء"، تجتمع العديد من العناصر التي جربتُها. لا تنس أن لدي أيضاً أربعة أفلام قصيرة. وفي الجملة بدأتُ أتلمس عناصر أساسية في أسلوبي السينمائي، وهي، أولاً: الواقعية، وثانياً: الشعرية في بعض الأحيان، وثالثاً: الموازاة بين التخييل والتوثيق".

من هم أساتذتك؟ نسأل المخرج، ليجيب: "مختلفون من مشارب عديدة، فعلى قدر ما أحب تاركوفسكي، أحب جون فورد وعلى قدر ما أحب كارل دراير، أحب هيتشكوك. شاهدت عدداً هائلاً من الأفلام، لأنني سينيفيلي. السينما غرام نشأ معي منذ طفولتي، إذ لم ألعب في الشارع، نظراً إلى أنني من ذوي الاحتياجات الحركية، فكنتُ دائماً في القاعات السينمائية. كنتُ أخرج من بيتنا في مدينتي العرائش حيث تتوافر على أربع دور سينما، وشاهدتُ كثيراً من الأفلام، ومن هنا تأثرتُ وجاءت لغتي السينمائية".

كونك من الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية، ما التدابير التي تتخذها لتسيير فيلم يحتاج إلى أن يتحرك المخرج بين الأماكن؟ يقول الكلاعي: "أحاول ألا أجعل وضعي الصحي مؤثراً على الفيلم، وهذا بالطبع يتطلب تدبيراً مع الفريق التقني. أحياناً أصور على دراجة بأربع عجلات، أو من السيارة... وغير ذلك مما أبتكره من أساليب. هناك عوائق، إلّا أنّها في الواقع وليست في الأشخاص".
يضيف: "قبل شخصية هدى في فيلمي الأخير، أدخلتُ شخصيات من الأشخاص ذوي الإعاقة في العديد من أعمالي، من دون أن أتحدث عن الإعاقة بذاتها. في فيلمي الأول، وضعتُ المرشدة الاجتماعية على كرسي متحرك، وفي فيلم آخر كان قائد الأوركسترا أيضاً على كرسي متحرك. لا أريد الحديث عن أوضاعهم، بل تطبيع وجودهم داخل المجتمع".

المخرج المغربي عبد السلام الكلاعي
المخرج المغربي عبد السلام الكلاعي


المصدر - كتبه: محمد هديب