"ميت حي"... فيلسوف مقبرة الجلّاز

أتيحت للمخرجة التونسية ليلى الشايبي ما يمكن عدّها فرصة العمر حين تعرفت إلى "حسن"، حارس مقبرة الجلّاز في تونس العاصمة، فقدمت لعالم السينما الوثائقية فيلسوفاً للهامش وصعلوكاً كريماً وصف نفسه بالميت الحي، وكانت إحدى هدايا حسن عنوان الفيلم "ميت حي" الصادر في 2021.

حصل الفيلم الأسبوع الماضي على تنويه خاص من مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان، وبدت الشخصية المحورية نقطة الارتكاز التي جعلت "ميت حي" مرشحاً ومنافساً، في فئة أفضل فيلم وثائقي طويل، لسبب هام هو العبء الذي حملته الشخصية على مدار ساعة ونصف الساعة بسلاسة بين الوثائقي والروائي. بيد أن هذه الوصفة لا تقل أهمية عن عنصر الاختلاف، أي أن تكون مختلفاً في أرض تتوافر بالضرورة على المقابر والحراس، ومن المتوقع دائماً أن تتشابه سردية الموت وعظاته وعِبره.

ما عشناه هنا كان إدارة المخرجة عالمين متوازيين: الأموات الذين يصاحبهم حسن بعشرة طيبة، ويتأمل الموت بوصفه كمال الدائرة، والأحياء الذين يعيشون ديمقراطية يصفها بـ"ديمقراطية الدينار"، والجشعون والمستعبَدون الذين يأتون إلى المقبرة ليصبحوا سواسية ينتظرون الحساب على أفعالهم. هؤلاء السواسية لا يكونون كذلك إلا تحت التراب. غير أن عمق التراب المناسب للجثة سيعيدنا مصدومين ذاهلين إلى مجتمع الأحياء غير المتساوين والمتنابذين، والخائفين الذين دفنوا الأموات بسرعة كيفما اتفق. لا يبدو أنها المرة الأولى لحسن، لكنها للمخرجة صدمة أولى ستتذكرها كما سنتذكرها زمناً طويلاً. يشير الميت الحي إلى أكياس طبية وأكفان صغيرة لجثث انتزعتها الكلاب وأكلتها، وعلى مقربة جمجمة استهلكت الكلاب لحمها. يكرر اعتذاره بأسى، لأن جثثاً لمجهولي الهوية والأطفال غير الشرعيين، والإرهابيين، يصبحون عشاء للكلاب، ومنادياً باحترام أي جثة حتى لو كانت لإرهابي، ودفنها بالتالي كما يليق بإنسانيتها.

ما بين العالمين رجل بسيط بساطة الأسئلة الفلسفية الأولى، يأتي صوته بدائياً من رئة واسعة، وما زال شغوفاً بالمغامرة حتى مع استبداد الحنين وخيانات عضلية أو في المفاصل. لا يصوم رمضان، لكنه عامر بالإيمان ويخرج الجن من فتاة ممسوسة أحضرتها عائلة تثق به. يغني بين القبور مع العمّال بمصاحبة علبة من التنَك للإيقاع، ثم يقرأ الفاتحة عند قبر أمه التي لم يشعر بالجوع إلا بعد موتها ويبكيها. يقدّس المقبرة ويرعى نظافتها وتوضيبها، ويتبادل فيها الحب مع صابرين، ويقيم عرسه في بيته على جانب هذه المساحة الضخمة والتاريخية المزدحمة بالأموات. يصعب على أي مخرج وثائقي أن يتطرّف روائياً، لأنه يخشى من أن يفسد الواقع. الحظ الذي عثرَت عليه المخرجة تمثل في إنسان عاش عقوداً في المقبرة، تعوّد على الكلام وحده ومع أمه المدفونة، لدى بث حزنه بسبب غيابها وغياب أشقائه وشقيقاته الذين لا يسألون عنه، أو الدردشة معها بشأن عاطفي يخص علاقته بصابرين ويشكو من تصرف لها هذا اليوم.

حين دخل "الميت الحي" مقبرة يترزق منها ويعيش، كان قد خاض حياته طولاً وعرضاً، مؤمناً بأن الحب "هبة من الله"، وارتبط بزيجات مع نساء من ثلاث قارات. ثمة الإيطالية واليوغوسلافية (من يوغوسلافيا الدولة البلقانية السابقة) والبرازيلية والتونسية، وله أبناء منهن قبل أن يصرف أربعة عقود في المقبرة ويتعرف إلى صابرين. من الواضح أن الكثير من المشاهد جرى تدبيرها عن بعد، أي بترك مسافة معلومة ولكن وهمية في ذات الوقت بين الكاميرا والأشخاص الذين سينسون كما تجري العادة وجود عدسة تصوير وطاقم. غير أن حسن على وجه التحديد كان مباشرة في عين الكاميرا سواء تحت الضوء أو في عتمة المقبرة، ومع ذلك فإن مونولوغاته وحواراته مع الأرواح التي تحوم في الجلّاز لا تقل عن طبقة الممثلين الذين نمدحهم لأنهم يبدون طبيعيين في تعابير الجسد والكلام.

المصدر - كتبه: محمد هديب